فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة عبس:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{عبس وَتولى أَنْ جاءه الْأَعْمَى}
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب، وكان يتصدى لهم كثيراً، ويحرص عليهم أن يؤمنوا، فأقبل إليه رجل أعمى يقال له: عبد الله بن أم مكتوم، يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرئ النبيَّ صلى الله عليه وسلم آيةً من القرآن وقال: يا رسول الله! علِّمني مما علمك الله. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبس في وجهه، وتولى وكرِه كلامه، وأقبل على الآخرين فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجواه. وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك اللهُ بعض بصره وخفق برأسه ثم إنزل الله تعالى: {عبس وَتولى} الآيات؛ فلما نزل فيه ما نزل أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلَّمه، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حاجتك؟ هل تريد من شيء؟ وإذا ذهب من عنده قال: هل لك حاجة في شيء؟».
قال ابن كثير: وهكذا ذكر عروة بن الزبير ومجاهد وأبو مالك وقتادة والضحاك وابن زيد وغير واحد من السلف والخلف، أنها نزلت في ابن أم مكتوم، والمشهور أن اسمه عبد الله، ويقال: عمرو. والله أعلم. انتهى.
وقال الرازي: أجمع المفسرون على أن الذي عبس وتولى هو الرسول صلوات الله عليه، وأجمعوا أن الأعمى هو ابن أم مكتوم.
قال الشهاب: وهو مكيّ قرشي من المهاجرين الأولين.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلفه على المدينة في أكثر غزواته. وكان ابنَ خال خديجة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها.
وقيل: عميَ رضي الله عنه بعد نور.
وقيل: ولد أعمى؛ ولذا لقبت أمُّه أم مكتوم. والتعرض لعنوان عماه؛ إما لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم وتشاغله بالقوم، وإما لزيادة الإنكار، كأنه قيل: تولى لكونه أعمى. وكان يجب أن يزيده لعماه، تعطفاً وترؤفاً وتقريباً وترحيباً.
{وَمَا يُدْرِيكَ لعله يَزَّكَّى} أي: يتطهر- بما يتلَقن منك- من الجهل أو الإثم. وفي الالتفات إلى الخطاب إنكار للمواجهة بالعتب أولاً؛ إذ في الغيبة إجلال له صلى الله عليه وسلم؛ لإيهام أن من صَدر منه ذلك غيره، لأنه لا يصدر عنه مثله؛ كما أن في الخطاب إيناساً بعد الإيحاش، وإقبالاً بعد إعراض.
وقال أبو السعود: وكلمة لعلَّ مع تحقق التزكي واردةٌ على سنن الكبرياء، أو على اعتبار معنى الترجي بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم؛ للتنبيه على أن الإعراض عنه عند كونه مرجوَّ التزكي، مما لا يجوز، فكيف إذا كان مقطوعاً بالتزكي؟ كما في قولك: لعلك ستندم على ما فعلت. وفيه إشارة إلى أن إعراضه كان لتزكية غيره. وأن من تصدى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلاً.
{أَوْ يذكر فتنفعه الذِّكْرَى} أي: يعتبر ويتعظ فتنفعه موعظتك. وتقديم التزكية على التذكر من باب تقديم التخلية على التحلية.
{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} أي: بماله وقوته عن سماع القرآن والهداية والموعظة.
{فَأَنتَ لَهُ تصدى} أي: تعرض بالإقبال عليه، رجاء أن يسلم ويهتدي.
{وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} أي: وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام؛ إنْ عليك إلا البلاغ.
قال الرازي: أي: لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم، إلى أنْ تعْرِض عمن أسلم، للاشتغال بدعوتهم.
{وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى} أي: يسرع في طلب الخير.
{وَهُوَ يَخْشَى} أي: يخاف اللهَ ويتقيه.
{فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى} أي: تعرض وتتشاغل بغيره.
تنبيهات:
الأول: قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآيات حث على الترحيب بالفقراء والإقبال عليهم في مجلس العلم وقضاء حوائجهم، وعدم إيثار الأغنياء عليهم.
وقال الزمخشري: لقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدباً حسناً. فقد روي عن سفيان الثوريّ رحمه الله أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراءَ.
الثاني: في هذه الآيات ونحوها دليل على عدم ضنِّه صلى الله عليه وسلم بالغيب.
قال ابن زيد: كان يقال: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم من الوحي شيئاً، كتم هذا عن نفسه.
الثالث: قال الرازي: القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بهذه الآية، وقالوا: لمّا عاتبه الله في ذلك الفعل دل على أن ذلك الفعل كان معصية. وهذا بعيد فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين، إلا بحسب هذا الاعتبار الواحد، وهو أنه يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء. وذلك غير لائق بصلابة الرسول عليه السلام، وإذا كان كذلك، كان ذلك جارياً مجرى ترك الاحتياط وترك الأفضل؛ فلم يكن ذلك ذنباً البتة.
وأجاب الإمام ابن حزم في (الفِصَل) بقوله: وأما قوله: {عبس وَتولى} الآيات، فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش، ورجا إسلامه. وعلم عليه السلام أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناسٌ كثير وأظهرَ الدين، وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته، وهو حاضر معه؛ فاشتغل عنه- عليه السلام- بما خاف فوته من عظيم الخير عما لا يخاف فوته، وهذا غاية النظر في الدِّين والاجتهاد في نُصرة القرآن في ظاهر الأمر ونهاية التقرب إلى الله، الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأُجر؛ فعاتبه الله عز وجل على ذلك إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يُقبل على ذلك الأعمى الفاضل البَر التقي، وهذا نفس ما قلناه. انتهى.
وقال القاشاني: كان صلى الله عليه وسلم في حِجر تربية ربِّه، لكونه حبيباً، فكما ظهرت نفسه بصفة حجبت عنه نور الحق، عوتب وأدب كما قال: «أدَّبني ربِّي فأحسَن تأديبي» إلى أن تخلق بأخلاقه تعالى. انتهى.
وقوله سبحانه: {كَلَّا} ردْعٌ عن المعاتَب عليه وعن معاودة مثله.
قال أنس رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه» رواه أبو يعلى. وقوله تعالى: {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي: أن المعاتبة المذكورة موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها.
قال الشهاب: وكون عتابه على ما ذكر عظة؛ لأنه مع عظمة شأنه ومنزلته عند الله إذا عوتب على مثله. فما بالك بغيره؟ وجوّز عود الضمير للآيات وللسورة، والوصية بالمساواة بين الناس، ولدعوة الإسلام. وقوله تعالى: {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ} أي: حفظه. على أنه من الذِّكر خلاف النسيان: أو اتعظ به، من: التذكير.
قال الزمخشري: وذكّر الضمير لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ.
وقيل: الضمير للقرآن، والكلام استطراد.
{فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} يعني صحف آيات التنزيل وسوره.
{مَّرْفُوعَةٍ} أي: عالية المقدار {مُّطَهَّرَةٍ} من التغيير والنقص والضلالة.
{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} جمع سافر بمعنى سفير. أو هو الذي سعى بين قومه بالصلح والسلام. يقال: سفر بين القوم، إذا أصلح بينهم، ومنه قوله:
وما أدعُ السفارَةَ بين قومي ** وما أَمْشي بِغِشٍّ إن مَشَيْتُ

والسفرة، إما الملائكة لأنهم يسفرونَ بالوحي بين الله تعالى ورسله، كأنه محمول بأيديهم، وإما الأنبياء لأنهم وسائط في الوحي يبلغونه للناس.
{كِرَامٍ} أي: عنده تعالى لاصطفائهم للرسالة {بَرَرَةٍ} أي: أخيار، جمع: بارٍّ، وهو صانع البِر والخير.
{قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} قال الرازي: اعلم أنه تعالى لمَّا بدأ بذكر القصة المشتملة على ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين، عجّب عباده المؤمنين من ذلك، فكأنه قيل: وأيُّ سبب في هذا العجب والترفع؟ مع أنّ أوله نطفه قذرة وآخره جيفةٌ مَذِرة وفيما بين الوقتين حمَّال عَذِرة؛ فلا جرم ذكر تعالى ما يصلح أن يكون علاجاً لعجبهم، وما يصلح أن يكون علاجاً لكفرهم؛ فإن خلق الْإِنْسَاْن تصلح لأن يستدل بها على وجود الصانع وعلى القول بالبعث والحشر والنشر، ومرجعه إلى أن المراد بالْإِنْسَاْن من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال عليه والإيمان به. وجوز أن يراد بالْإِنْسَاْن الجنس المنتظم للمستغني، ولأمثاله من أفراده، لا باعتبار جميع أفراده.
لطائف:
الأولى: قال الزمخشري:
{قُتِلَ الْإِنْسَاْن} دعاء عليه وهي من أشنع دعواتهم؛ لأن القتل قُصارى شدائد الدنيا وفظائعها.
الثانية: قال ابن جرير: في قوله: {مَا أَكْفَرَهُ} وجهان: أحدهما التعجب من كفره مع إحسان الله إليه وأياديه عنده. والآخر ما الذي أكفره، أي: أي: شيء أكفره؟ وعلى الثانية فالهمزة للتبصير كأَغدَّ البعيرُ.
الثالثة: قال الزمخشري في هذه الآية: ولا ترى أسلوباً أغلظ منه ولا أخشن منتناً ولا أدل على سخط ولا أبعد شوطاً في المذمة، مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للأئمة، على قِصر متنه؛ وسرُّه ما أشار له الرازي من أن قوله: {قُتِلَ الْإِنْسَاْن} تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب. وقوله: {مَا أَكْفَرَهُ} تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات.
الرابعة: أفاد في (الكشف) أن الدعاء ليس على حقيقته، لامتناعه منه تعالى، لأن منشأه العجز، فالمراد به إظهار السخط باعتبار جزئه الأول، وشدة الذم باعتبار جزئه الثاني، أي: لاستحالة التعجب بمعناه المعروف أيضاً.
{مِنْ أي شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [18- 21]
وقوله تعالى: {مِنْ أي شَيْءٍ خَلَقَهُ} شروع في بيان إفراطه في الكفر، بتفصيل ما أفاض عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره من فنون النِّعم الموجب لقضاء حقها بالشكر والطاعة، مع إخلاله بذلك.
وفي الاستفهام عن مبدأ خلقه، ثم بيانه بقوله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ} تحقير له، أي: من أي: شيء حقير مَهين خلقه؟ من نطفة مذرة خلقه {فَقَدَّرَهُ} أي: فهيَّأه لِما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال، أو فقدره أطواراً إلى أن تمَّ خلقه.
{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أي: سهَّله، وهو مَخرجه من رَحِم أمّه بعد اجتنانه وتعاصيه. أو سبيل الإسلام.
قال ابن زيد: هداه للإسلام الذي يسَّره له وأعلمه به، أي: بما غرز في فطرته من الخير، وأودع في غريزته من وجدان معرفة الخالق.
وقال مجاهد: يعني سبيل الشقاء والسعادة وهو كقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الْإِنْسَاْن: 3]، واختاره أبو مسلم قال: المراد من هذه الآية هو المراد من قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، فهو يتناول التمييز بين كل خير وشر يتعلق بالدنيا، وبين كل خير وشر يتعلق بالدِّين، أي: جعلناه متمكناً من سلوك سبيل الخير والشر. والتيسير يدخل فيه الإقدار والتعريف والعقل وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب، نقله الرازي.
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} أي: جعله ذا قبر يوارى فيه؛ تكرمةً له، ولم يجعله مطروحاً على وجه الأرض للطير والسباع، كالحيوان.
قال الفراء: ولم يقل: فقبره؛ لأن القابر هو الدافن بيده، والمقبر هو الله تعالى يقال: قبر الميت، إذا دفنه، و: أقبر الميت، إذا أمر غيرهُ بأن يجعله في القبر.
وقال ابن جرير: القابر هو الدافن الميت بيده، كما قال الأعشى:
ولو أسندت ميتاً إلى نحْرِها ** عاشَ ولم ينقل إلى قابِرِ

{ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} أي: بعثه بعد مماته وأحياه؛ وإنما قال: {إِذَا شَاء} لأن وقت البعث غير معلوم لأحد، فهو مَوكُول إلى مشيئته تعالى، متى شاء أن يحيي الخلق أحياهم.
قال الشهاب: وتخصيص النشور به دون الإماتة والإقبار، لأن وقتهما معين إجمالاً، على ما هو المعهود في الأعمار الطبيعية.
{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} قال ابن جرير: أي: ليس الأمر كما يقول الْإِنْسَاْن الكافر، من أنه قد أدّى حقَّ الله عليه في نفسه وماله، فإنه لمّا يؤد ما فرَض عليه من الفرائض ربُّهُ.
وقال القاشاني: لمَّا بين أن القرآن تذكرة للمتذكرين تعجَّب من كفران الْإِنْسَاْن واحتجابه حتى يحتاج إلى التذكير. وعدد النِّعم الظاهرة التي يمكن بها الاستدلال على المنعم بالحس، من مبادئ خلقته، وأحواله في نفسه، وما هو خارج عنه مما لا يمكن حياته إلا به. وقرر أنه مع اجتماع الدليلين، أي: النظر في هذه الأحوال الموجب لمعرفة الموجد المنعم والقيام بشكره، وسماع الوعظ والتذكير بنزول القرآن، لما يقض في الزمان المتطاول ما أمره الله به من شكر نعمته، باستعمالها في إخراج كماله إلى الفعل، والتوصل بها إلى المنعم، بل احتجب بها وبنفسه عنه. انتهى.
ولما فصل تعالى النعم المتعلقة بحدوثه، تأثرها بتعداد النعم المتعلقة ببقائه.
فقال سبحانه: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طعامه} أي: فإن لم يشهد خلق ذاته، وعمي عن الآيات في نفسه، وأصر على جحوده توحيدَ ربِّه، فلينظر إلى طعامه ومأكله الذي هو أقرب الأشياء لديه. ماذا صنعنا في إحدائه وتهيئته لأنْ يكون غذاءً صالحاً.
وقوله تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء} أي: من المُزن {صَبّاً} أي: شديداً ظاهراً. وقد قرئ بكسر همزة {إنا}، على الاستئناف المبيِّن لكيفية حدوث الطعام، وبالفتح على البدلية، بدل اشتمال، بمعنى سببية الأول للثاني أو تقوم الثاني بالأول. فهو من اشتمال الثاني عليه أو بدل كلّ، ادّعاءً.
{ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} أي: صدَعْناها بالنبات، أو شققنا أجزاءها بعد الريّ ليتخلل الهواء والضباء في جوفها.
{فَأَنبَتْنَا فِيهَا حبًّا} يعني حَبَّ الزرع، وهو كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما من الحبوب.
{وَعِنَباً وَقَضْباً} وهو كل ما أكل من النبات رطباً، كالقثاء والخيار ونحوهما. سمي قضباً لأنه يقضب، أي: يقطع مرة بعد أخرى.
{وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ} جمع حديقة وهي البساتين ذوات الأشجار المثمرة، عليها حوائط تحيط بها {غُلْباً} جمع غَلباء، أي: ضخمة عظيمة، وعِظمها إما لاتساعها البالغ حدَّ البصر، أو لغلظ أشجارها وتكاثفها والتفافها.
{وَفَاكِهَةً} أي: ما يؤكل من ثمار الأشجار {وَأَبّاً} وهو المَرعى الذي تأكله البهائم من العُشب والنبات.
{مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} أي: تمتيعاً. مفعول له لـ: أنبتنا، أو مصدر حذف فعله وجُرِدَ من الزوائد، أي: متعكم بذلك متاعاً، وجعلكم تنتفعون به أنتم وأنعامكم.
{فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ} يعني الداهية الشديدة، وهي صيحة القيامة وصوت زلزالها الهائل المصمّ للآذان. يقال صخّه يصخه، ضرب أذنه فأصمَّها، وصاح بهم صيحة تصخّ الآذان، وقد صخ صخيخاً، وهو صوته إذا قرع. وصخ لحديثه إذا أصاخ له بمعنى: استمع، كما في (الأساس)، ويجوز على الأخير أن تجعل بمعنى المستمعة، مجازاً في الإسناد. وجواب إذا محذوف يدل عليه ما بعده، كيشتغل كلٌّ بنفسه، أو افترق الناس: {يوم يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِه} أي: زوجته.
{وَبَنِيهِ} أي: لاشتغاله بنفسه؛ وعلمه بأنهم لا ينفعونه.
قال الشهاب: يعني أن الإقبال عليهم إما للنفع أو للانتفاع، وكلاهما منتفٍ لاشتغاله بنفسه عن نفس غيره، وعلمه بعدم نفعه. وتأخير الأحبّ فالأحب للمبالغة؛ فهو للترقي، كذا قيل.
قال الشهاب: والظاهر أنه لم يقصد ذلك لاختلاف الناس والطباع فيه.
{لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يومئِذٍ شَأْنٌ يغنيه} أي: يكفيه في الاهتمام به، كأنه ذلك الهم الذي نزل به قد ملأ صدره فلم يبق فيه متسع لهمٍّ آخر، فصار شبيهاً بالغني.
{وُجُوهٌ يومئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} أي: مضيئة.
{ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} أي: مسرورة بنيل كرامة الله والنعيم المتزايد، وهي وجوه المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وقدَّموا من الخير والعمل الصالح ما ملؤوا به صحفَهم.
{وَوُجُوهٌ يومئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي: غبار وكدورة.
{تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} أي: تغشاها ظلمة.
{أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} أي: الفسَقة الذين لا يبالون ما أتوا به من معاصي الله، وركبوا من محارمه، فجوزوا بسوء أعمالهم وخبث نياتهم. اهـ.